الحي العسكري بمراكش..أبطال بلا سكن

عبد الرحمان البصري
“أقطن في حي بينلقشالي بمراكش منذ السبعينيات. نقيم هنا بأمر من جلالة الملك الحسن الثاني، رحمه الله، الذي أعطى تعليماته بأن يستفيد الجنود الذين كانوا يخوضون الحرب ضد البوليساريو من السكن العسكري. الضباط تم إيواء عائلاتهم في الفيلات، أما أسر باقي الجنود فقد استفادوا من غرف، فيما سُمح لمن لم تتبق لهم أمكنة بأن يشيدوا منازل صغيرة تؤوي أبناءهم. بعد ذلك تم تفويت الفيلات للضباط بثلاثين درهما للمتر المربع. لقد صدرت تعليمات ملكية بتفويت جميع السكنيات العسكرية، ولكنهم ظلوا يماطلون في تنفيذها، إلى أن قرروا ترحيلنا إلى حي العزوزية. اعترضنا بقوة. نظمنا وقفة احتجاجية، في فبراير من سنة 2011، رفضا للترحيل. تراجعوا تحت الضغط، فأصدروا قرارا بعدم الترحيل من الحي مع إعادة هيكلته، ولكنهم لم يلتزموا بما تعهدوا به، ثم هاهم يعودون، بعد سنوات، لطرح خيار الترحيل”.
بهذه العبارات أوضح الجندي المتقاعد، سلام لمنيعي، لوسائل الإعلام دواعي تنظيم وقفة احتجاجية سابقة شارك فيها هذا الشيخ السبعيني إلى جانب المئات من متقاعدي القوات المسلحة الملكية، وقدماء مجاهدي جيش التحرير، وأرامل ويتامى الجنود الذين استشهدوا في المعارك بالصحراء المغربية، للتنديد بتأخر تفعيل محضر “الموافقة على مقترح ساكنة الحي المتعلق بإعادة الهيكلة، وعدم الترحيل،مع بحث كل الحلول الأخرى التي تراعي مصالح السكان”، الموقع، بتاريخ 26 فبراير من 2011، من طرف والي مراكش الأسبق، محمد امهيدية، والقائد المنتدب السابق لحاميتها العسكرية، محمد وادي”.
سكان حي “يوسف ين تاشفين” عادوا مجددا للتظاهر من أجل تحقيق المطلف نفسه، فقد نظموا وقفة احتجاجية، أمس السبت 13 شتنبر 2025، أمام مقر الحامية العسكرية. التظاهرة الأخيرة لم تكن بنفس زخم احتجاجاتهم خلال فبراير 2011، ولكن منظميها يلوّحون بالتصعيد والدخول في برنامج نضالي، بسبب قرار المجلس الجماعي لمراكش إدراج حيّهم ضمن تصميم التهيئة الجديد كمنطقة للفنادق والعمارات الفاخرة، وكأن ساكنته قد تم ترحيلها بالفعل متجاهلا أن الملف مازال قائما وأن السكان يتمسكون بحقهم في البقاء بالمساكن التي يقطنون بها منذ عقود طويلة.
من تاريخ الحي العسكري
غير بعيد عن “كَليز”، الوسط التجاري الراقي لمراكش، يمتد الحي العسكري على 273 هكتارا. حوالي 230 هكتارا منها تحتلها مؤسسات عسكرية واجتماعية، بعضها أصبحت شاغرة بعدما تم إخلاؤها، ويتعلق بثكنة الهندسة العسكرية، وثكنة المشاة، ومستودع الأسلحة، ومستودع المحروقات، ونادي الضباط، ونادي ضباط الصف، والمصحة العسكرية، والملعب الرياضي، المستشفى العسكري، فيما لازالت مرافق أخرى آهلة، وهي مقر قيادة الحامية العسكرية، وثكنة الدرك الملكي، وثكنة التموين.
مثل بقع جلد فهد، تخترق هذه الثكنات والمرافق تجمعات سكنية خاصة بمتقاعدي القوات المسلحة الملكية، تصل مساحتها إلى حوالي 43 هكتارا، تشمل تسعة أحياء رئيسية تحمل أسماء: بايير، بوجو، أليكَرو، السبايس، المرس، 114 الشمالي، 114 الجنوبي، وحيي الزيتون القديم والجديد.
لقد كانت هذه المنازل في الأصل مساكن عسكرية للجنود الفرنسيين في عهد الحماية، قبل أن يرحلوا منها بعد الاستقلال، ليصدر الملك الراحل الحسن الثاني، مع اندلاع المعارك في الصحراء المغربية، في السبعينيات من القرن الماضي، أمرا بتفويت استغلال هذه الدور السكنية المسترجعة للجنود الذين التحقوا بساحات الحرب حرصا على ارتفاع معنويات أفراد القوات المسلحة الملكية.
الحي العشوائي
الحي الذي يحمل الاسم الرسمي “يوسف بن تاشفين”، والتابع حاليا لمقاطعة “جليز”، أصبح مع مرور الوقت عبارة عن بنايات باهتة اللون، غير متناسقة، ومتفاوتة في العلو، تخترقها أزقة وشوارع محفرة، و ينتشر فيه البناء العشوائي، ولم يعد قاطنوه مقتصرين على عائلات الجنود، بل تسلل إلى الحي سكان جدد من “المدنيين”، الذين أصبحوا يشكلون حوالي عشر ساكنته.
“بين لقشالي” أصبح، حاليا، حيا بلا حدائق ولا دور شباب ولا ملاعب رياضية أو مرافق ترفيهية، وبدون مركبات تجارية. تراجع مستوى الخدمات العمومية بدأ منذ الثمانينيات، فقد كان يؤدي السكان فواتير الماء والكهرباء لقيادة الحامية، التي تتكلف بأدائها للمكتبين الوطنيين للماء والكهرباء، قبل أن تتكدس فواتير بدون أداء بلغت قيمتها أكثر من 400 مليون سنتيم، ليُجبر السكان، في سنة 1983،على القيام بإجراءات إدخال عدادات الماء والكهرباء، والربط بشبكة التطهير السائل، وهي الإجراءات التي كلفت 15 ألف درهم لكل منزل، في الوقت الذي كانت فيه أسعار البقع الأرضية بالتجزئات السكنية، التابعة للشركة الجهوية للتجهيز والبناء “ليراك”(مؤسسة العمران حاليا)، لا تتجاوز، وقتئذ،7000 درهم بأحياء “المسيرة” و”آزلي”.
تفويت السكن العسكري
مرّ مسلسل تفويت الدور السكنية بالحي العسكري من ثلاث مراحل، بين الثمانينيات والتسعينيات، وقد تراوح فيها السعر بين 30 و51 درهما للمتر المربع الواحد، واستفاد منها ضباط سامون، وهي الفيلات التي تحوّل معظمها حاليا إلى مشاريع عقارية واستثمارية راقية.
ثم تقرر تفويت الشطر الرابع، في شتنبر 2002، تزامنا مع بداية الطفرة العقارية التي عرفتها مراكش، ولكن السومة المقررة آنذاك ارتفعت إلى مبلغ يتراوح بين 2000 و3000 درهم، لتوجه إدارة الدفاع الوطني، بتاريخ 14 شتنبر من السنة نفسها، مذكرة إلى الملك محمد السادس من أجل إبداء وجهة نظره في تفويت السكنيات العسكرية بمختلف الأحياء العسكرية بالمغرب، وهي المذكرة التي تحمل رقم 2642 ، وقد أشرّ عليها القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية بتوقيعه، وكتب ملاحظة بخط يده باللغة الفرنسية تقول :”أنا كنت دائما مع تخفيض أثمنة تفويت السكن”، وهي المذكرة التي يعتبرها سكان الحي العسكري بمراكش موافقة من أعلى سلطة في البلاد على تفويت منازل الحي لقاطنيها، بل إنهم يرفعون دائما في تظاهراتهم لافتات تطالب المسؤولين بتفعيل المذكرة تنفيذا للأوامر الملكية.
مشاريع على أنقاض “بينلقشالي”
بتاريخ الجمعة25 فبراير 2011 أشرف الملك محمد السادس بقاعدة مدارس القوات الملكية الجوية بمراكش، على انطلاقة أشغال مشروع تنقيل منشآت عسكرية من المدينة بتكلفة إجمالية تتجاوز 3 ملايير درهم.
العملية كانت تهمّ تفويتالقطعة الأرضية، التي تبلغ مساحتها 270 هكتارا، لفائدة صندوق الإيداع والتدبير بغلاف مالي يبلغ 2.65 مليار درهم، وفي مقابل القيمة المالية للعقار الحالي للحي العسكري، سيتكفل الصندوق بنفقات إنجاز المستشفى العسكري بمراكش بـ 450 مليون درهم، وتأهيل المدارس العسكرية في ابن جرير بـ 958 مليون درهم.
كما يهمّ المشروع تنقيل ثكنات مجمع “يوسف بن تاشفين” بتكلفة تتجاوز مليار ونصف المليار درهم، بتمويل من وكالة المساكن والتجهيزات العسكرية.
ويشمل هذا المشروع، الذي سيمكن من إخلاء قطع مهمة من الأراضي بوسط مدينة مراكش، بالأساس، تنقيل التجهيزات الأساسية العسكرية وإعادة إسكان حوالي 3800 أسرة من قاطني دور الصفيح بمجمع يوسف بن تاشفين على وعاء عقاري مساحته 270 هكتارا في ملكية الوكالة المذكورة.
وقد كان مقررا أن يتيح مشروع تنقيل المنشآت العسكرية إقامة ثلاث مناطق حضرية على مساحة إجمالية تناهز 560 هكتارا ويتعلق الأمر بمجمع “يوسف بن تاشفين”، والذي كان مبرمجا أن يمتد على حوالي 270 هكتارا،و يتولى تنفيذه صندوق الإيداع والتدبير، فيما المنطقة الثانية كان مبرمجا إقامتها على القطعة الأرضية الموجودة بقاعدة مدارس القوات الجوية الملكية، الممتدة على مساحة 90هكتارا، والتي كان منتظرا أن يعهد بإنجازها إلى وكالة المساكن والتجهيزات العسكرية، فيما المشروع الثالث كان مقررا أن يتم إحداثه بعقار بحي “العزوزية”، يبلغ حوالي 200 هكتار، في إطار شراكة بين الصندوق والوكالة.
وكان مبرمجا أن يتم تمكين هذه الأقطاب الحضرية الثلاثة، التي تتطلب تعبئة استثمارات مالية بقيمة 11 مليار درهم على مدى ست سنوات، من جميع التجهيزات الضرورية وكذا بناء حوالي 27000 وحدة سكنية منها 18000 وحدة مخصصة للسكن الاجتماعي.
وبالمناسبة نفسها، قُدمت للملك محمد السادس شروحات حول مشروع تهيئة القطب الحضري “العزوزية” الذي سيتم إنجازه في إطار هذا البرنامج باعتمادات إجمالية تصل إلى 5 ملايير درهم، منها 1.5 مليار درهم مخصصة لإعادة الإسكان والتهيئة.
احتجاجات ومفاوضات
ما إن انتهت وسائل الإعلام الرسمية من بث التقرير الإخباري المتعلق بالمتعلق بالمشاريع المذكورة، حتى اندلعت احتجاجات قوية لسكان الحي العسكري، الذين نظموا وقفات احتجاجية بشارعي محمد الخامس وعبد الكريم الخطابي، وهي التظاهرات التي استمرت ليومين متوالين، وتطورت إلى مواجهة مع القوات العمومية، التي أوقفت مجموعة من المحتجين، قبل أن يطفئ الوالي الأسبق للجهة ،امحمد مهيدية، غضب الشارع، ويسارع إلى فتح حوار مع ممثلي المتظاهرين، انتهى بتحرير محضر وقّع عليه الوالي إلى جانب القائد المنتدب السابق للحامية العسكرية.
المحضر خلص انتهى بعبارة “تمت الموافقة على مقترح ساكنة الحي المتعلق بإعادة الهيكلة، وعدم الترحيل، و بحث كل الحلول الأخرى التي تراعي مصالح السكان”، فيما أشارت ديباجته إلى أن السلطات المحلية عقدت لقاءات مع سكان الحي، الذين قال المحضر بأنهم عبّروا عن رغبة شديدة في المعالجة المعمارية للحي، وتعويض قرار الترحيل إلى منطقة العزوزية بخيار إعادة هيكلة الحي.
خيار الترحيل يعود للواجهة
في فبراير القادم تحلّ ذكرى مرور 15 سنة على توقيع محضر “إعادة الهيكلة”، الذي بقي حبرا على ورق بدون تنفيذ. وطيلة هذه السنوات كانت تنسيقية جمعيات و وداديات الحي تنظم وقفات احتجاجية تطالب المسؤولين بتنفيذ التزاماتهم، غير أن طرح الترحيل أصبح قائما، مجددا، من أجل إنجاز المشاريع المذكورة، فلقد أضحت السلطات تعبّر لممثلي سكان الحي بأنها لا يمكن أن تظل غاضة الطرف عن واقع انتشار البناء العشوائي وتردي الخدمات العمومية بهذا الحي الذي يقع في قلب مدينة تعتبر من بين أهم الوجهات السياحية في العالم.
دخل ممثلو المجتمع المدني بالحي في مفاوضات شاقة مع السلطة، فقد كان الوالي الأسبق للجهة، عبد الفتاح البجيوي، يدعوهم إلى المرونة، رافعا شعار “رابح ـ رابح”، مقترحا عليهم ثلاثة حلول مقابل الموافقة على الترحيل، إما الاستفادة من شقق اقتصادية بأي مدينة يختارونها، أو بقعة أرضية من 84 مترا مربعا بمنطقة العزوزية مع مبلغ 6 ملايين سنتيم، أو تسلم مبلغ 25 مليون سنتيم.
في المقابل، ظل ممثلو السكان متشبثين بخيار التمليك، مع حضور ممثل عن المصالح الاجتماعية للقوات المسلحة الملكية، وكانوا يعبرون عن استغرابهم إزاء ما يعتبرونه “كيلا بمكيالين” في التعامل مع تفويت السكن العسكري، ففي الوقت الذي عاد طرح الترحيل إلى الواجهة، يقولون بأنه تم تفويت 13 فيلا بالحي نفسه، في 2017، إلى ضباط سامين، مع التلميح إلى القبول بالترحيل على أساس شروط تم اعتمادها في عمليات سابقة، مستدلين على ذلك بحالة ترحيل الشطر الأول من قاطني “دوار الدوم”، في الثمانينيات، الذين استفادوا من سكن من مساحة 120 مترا مربعا، عبارة عن فيلات صغيرة بحي “الزيتون”، والشطر الثاني من العملية نفسها، التي استفاد خلالها المرحّلون من بقعتين أرضيتين، واحدة في حي “الزيتون” والأخرى في حي “المسيرة”، وكذا عملية ترحيل السكان لإحداث قنطرة بالحي نفسه، وهي العملية التي استفادوا فيها من بقعتين بتجزئة “النور”بدوار “الكدية”.
“السيديجي” يدخل على الخط
تبني الوالي البجيوي لمفاوضات على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب” أثمرت موافقة ممثلي سكان الحي على أن يفتح صندوق الإيداع والتدبير مكتبا له بالحي ليتقدم أمامه الموافقون على قرار الترحيل إلى “العزوزية”، وهو المكتب الذي شرع في استقبال ملفات المعنيين بالترحيل، ابتداء من شهر يونيو 2018، حيث تقدم حوالي 800 شخص بملفاتهم، جرت معالجة ما يقارب 500 ملف منها، فيما تقرر تعميق البحث في الملفات المتبقية.
من جهتهم، يعتبر ممثلو السكان بأن الطلبات المودعة لدى “السيديجي” لا تمثل سوى حوالي 10 % من قاطني الحي العسكري، الذين يصل عددهم إلى أكثر من 7800 أسرة، تقيم بـ 3800 سكن عسكري.
مطالب إضافية
يرجع آخر حوار فتحته السلطة مع تنسيقية الحي إلى تاريخ الأربعاء 10 ماي 2017، ومنذ ذلك التاريخ ظل ممثلوها يطالبون بفتح الحوار مجددا، فقد وجهوا ثلاث رسائل إلى والي الجهة الجديد، الأولى بتاريخ 8 أكتوبر 2018، والثانية في شهر نونبر، فيما الثالثة بتاريخ 25 دجنبر من السنة ذاتها، وهي الطلبات التي لم يتم الرد عليها من طرف الوالي،الذي عاد و كلف موظفا بديوانه للقاء ممثلي التنسيقية، الذين يقولون بأنهم وقفوا،خلال الاجتماع، على حقيقة أن الموظف المذكور غير ملم إطلاقا بحيثيات الملف.
الملف المطلبي لسكان الحي العسكري لا يشمل، فقط، الاستفادة من الدور السكنية التي ظلوا يقيمون بها، منذ أكثر من أربعين سنة، بل يتضمن مطالب أخرى تتعلق بإعادة النظر في معاش معظم المتقاعدين، الذي لا يتجاوز في حالات كثيرة مبلغ 1500 درهم، وكذا مطالبة الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بإدارة الدفاع الوطني بحقهم في الاستفادة من التعريفة المخفضة في وسائل النقل العمومي، داعين إلى إخراج نص تنظيمي للتعريفة المخفضة في وسائل النقل العمومي، كما ينص على ذلك القانون الصادر في الجريدة الرسمية تحت رقم 34.97 وإنصافا لهم واعترافا لها بما قدموه في سبيل خدمة الوطن وحمايته، من خلال إصدار قانون تنظيمي متعلق بالتعريفة المخفضة للنقل بواسطة القطار وطائرات وحافلات النقل العمومي، أسوة بباقي القطاعات كالصحة والتعليم، فضلا عن التنصيص على امتيازات التخفيض بالفنادق والمجانية بالمستشفيات العمومية،كما تنص على ذلك المادة 10 من القانون المذكور.